من خلال الضوابط الشرعية فإن هناك أسبابًا للأزمة ، ولا يعني ذلك قصر الأزمة على هذه الأسباب :-
أوَّلاً: تفشِّي الربا:
أطلق دهاقنة النظام الرأسمالي مقولة سارت بها الركبان أنه "لا اقتصاد بلا بنوك، ولا بنوك بلا فوائد". وتلقف هذه المقولة المتأثرون بالفكر الرأسمالي والمخدوعون به فرَوَّجُوا لها، وجادلوا من أجل صحتها وجدواها، وألصقوا التُّهم بمن عارضها مرة بالسذاجة الفكرية، وأخرى بالظلامية والرجعية، وثالثة بالشيوعية، ورابعة بالإرهاب.
إن المتأمل في هذه الأزمة يجد أن بدايتها هي الحث والتشجيع على الاقتراض بالربا، وإثقال كاهل الناس بالقروض الربوية؛ سواء لتأمين احتياجات أساسية كالمنازل ونحوها، أو لغيرها من الكماليات والترفيهيات، بل كانت سعادة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وبيوت المال، والسماسرة، والمقترضين غامرة بهذه التسهيلات الربوية؛ حيث وجدوا فيها محركًا للاقتصاد، ومن ثَمَّ استمرار النمو، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وعجز المدينون عن السداد، ومن ثم إشهار الإفلاس.
إن الإسلام إذ يحرم الربا، ويجرِّمه، ويعدّه من السبع الموبقات -أي المهلكات- فإنه لا يمكن تصور الهلاك والدمار والخراب كجزاء أخروي فقط، إنما هو جزاء وعقوبة دنيوية، وإن الحرب التي يشنُّها الله ورسوله على الاقتصاديات الربوية هي حرب شاملة لا تقف عند حدود البنوك والبورصات، بل هي أعم من ذلك، وها هو العالم يشهد آثار هذه الحرب ويعانيها، لكن هل هناك من له قلب، أو ألقي السمع وهو شهيد؟!
لقد كذَّبت هذه الأزمة تلك النصيحة الاقتصادية التي كثيرًا ما تتكرَّر على ألسنة الاقتصاديين؛ وهي أن الاستثمار العقاري، والاستثمار في السندات الربوية هما آمن الحقول الاستثمارية من حيث حجم المخاطر والعائد، وهي نصيحة يمكن أن تكون صادقة لو خلت هذه الاستثمارات من آفة الربا والمقامرات.
إن بعضًا من عقلاء مفكري الغرب أدركوا أخيرًا هذه الحقيقة من زاوية اقتصادية بحتة مجردة عن الجانب العقدي والإيماني، ومن ذلك ما ذكرته الباحثة الإيطالية "لووريتا نابليوني" في كتاب صدر لها مؤخرًا "أن المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام، وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن النظام المصرفي التقليدي بدأ يُظْهِر تصدُّعًا، ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة". وقريبٌ من ذلك ما أعلنه الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "موريس إلي"، فيما يتعلق بمعالجة أزمة المديونية والبطالة أن الخروج من الأزمة وإعادة التوازن لهما شرطان هما: تعديل الفائدة إلى حدود الصفر، ومراجعة معدل الضريبة لما يقارب 2% . وهو ما يعني منع الربا، وتطبيق أحكام الزكاة.
إننا إذ نسجِّل هذه الشهادات لا نعني حاجة الشريعة إلى شهادة كفاءة أو صلاحية من مفكري الغرب ورجالاته، لكننا نقدمها لبني جلدتنا الذين لا يزالون يعتبرون النظام المصرفي الربوي هو الأمثل، بل والأقرب إلى روح الإسلام ومقاصده كما يزعمون.
ثانياً: المضاربات الوهمية والصفقات الصورية:
يقوم الاقتصاد الرأسمالي على ما يسمى بـ"المضاربة"، ولا علاقة لها بـ"المضاربة الشرعية" المعروفة في الفقه الإسلامي، إنما يُقْصَد بها: خَلْق تعامل نشط على سهم أو سند، دون أن يكون هناك تبادل فعلي حقيقي للسلع أو المنافع، مصحوبًا بالكذب، والخداع، وصورية العقود، والتآمر، ونحو ذلك مما هو من مساوئ التعامل في السوق الرأسمالية .
وتعد هذه المضاربات من أخطر آفات اقتصاد السوق، وقد كانت ولا تزال سببًا في الكثير من الكوارث والأزمات، حتى وصفها رئيس فرنسا السابق شيراك بأنها "وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي". ولخطورتها أيضًا أصدرت السيدة هيلجا تسيب لاروش رئيسة معهد شيللر العالمي بيانًا بعد كارثة تسونامي بعنوان: "ما هو أجدى من المساعدات.. نظام اقتصادي عالمي عادل جديد". وجاء في هذا البيان عدة توصيات، منها: "أن المضاربات في المشتقات المالية والعملات التي وصلت مؤخرًا - وفق آخر إحصائية لبنك التسوية العالمي - إلى 2000 تريليون دولار، يجب مسحها كليًّا، وجعلها غير قانونية، عن طريق اتفاقيات بين الحكومات" .
ومع هذه التحذيرات للأسف لم تُجَرَّم ولم تمنع، بل تفنَّن مقامرو السوق وصانعوه في ابتكار المزيد من صورها، وللأسف أيضًا وُجِدَ مَنْ يدفع مؤسساتنا المالية لأن تحذو حذو أختها في العالم الغربي، بل قننت كثيرًا من صور المضاربة وأصبحت تشريعًا ساري المفعول في كثير من دول العالم الإسلامي.
إن هذه الأزمة الأخيرة أثبتت أن ما قدَّمته الشريعة الإسلامية من مبادئ اقتصادية (متمثلة في تحريم النجش، وبيع الإنسان ما ليس عنده، والميسر، وبيع الغرر الذي يندرج تحته صور كثيرة؛ حيث يصدق على بيع المجهول، وبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يقدر على تسليمه وغيره) لهو الضمان الحقيقي من حدوث مثل هذه الكوارث والأزمات، وهو ما فطنت له الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- فأصدرت قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية، واشتراط التقابض في أجل محدَّد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد .
ثالثًا: بيع الديون:
من أهم فصول الأزمة الراهنة قيام البنوك بتوريق الرهون العقارية، وكذا القروض المتعثرة، وبيعها في صورة سندات؛ حيث قامت البنوك بعرض بيع خداعي لهذه الرهون العقارية شبه الممتازة على مؤسستي "فريدي ماك"، و"فاني ماي"؛ حيث قامتا بوضعها في مجمعات من الرهون العقارية، وبيعها إلى صناديق استثمارية، وإلى عامة الجمهور على كونها استثمارات رفيعة الدرجة تتميز بحد أدنى من المخاطر .
وهو نشاط يُعْرَف في الفقه الإسلامي ببيع الديون، وهو ممنوع شرعًا إلاَّ بضوابط تمنع الزيادة الربوية والعمليات الصورية ، ويُعْرَف اقتصاديًّا بالتوريق، والمقصود به: "تحويل القروض وأدوات الديون غير السائلة إلى أوراق مالية قابلة للتداول في أسواق المال، وهي أوراق تستند إلى ضمانات عينية أو مالية ذات تدفقات نقدية متوقَّعَة، ولا تستند إلى مجرَّد القدرة المتوقَّعة للمدين على السداد من خلال التزامه العام بالوفاء بالدين" .
وعَرَّفَتْه وزارة الاستثمار المصرية بأنه "قيام مؤسسة مالية مصرفية، أو غير مصرفية بتحويل الحقوق المالية - غير القابلة للتداول، والمضمونة بأصول - إلى منشأة متخصصة ذات غرض خاص تسمى في هذه الحالة «شركة التوريق»؛ بهدف إصدار أوراق مالية جديدة، في مقابل أن تكون هذه الحقوق المالية قابلة للتداول في سوق الأوراق المالية" .
وقد قُنِّنَ نشاط التوريق في كثير من الدول العربية والإسلامية، وقُدِّمَ على أنه من أدوات تنشيط حركة أسواق المال بشقَّيْه الأَوَّلِيِّ والثانويِّ، وغاب عن الكثيرين ما يحمله هذا النشاط من آفات مهلكة؛ إذ هو عبارة عن بيع دين بدين، وهي الآفة التي كانت سببًا في تفاقم الأزمة الأخيرة؛ إذ لم تكن الحركة النشطة للاقتصاد الأمريكي في الفترة الأخيرة إلاَّ سلسلة من الديون المتضخمة، التي لم يكن لها أي ناتج في الاقتصاد الفعلي؛ حيث كانت عبارة عن أوراق من السندات والمشتقات والخيارات يتم تبادلها والمضاربة عليها في السوق الثانوية، وجميع هذه الأنشطة المتقدمة ممنوعة شرعًا .
رابعًا: عمليات الخداع والتضليل:
أعادت هذه الأزمة إلى الأذهان ما حدث في أزمة لحقت بالاقتصاد الأمريكي، وكانت في الأساس أزمة أخلاقية؛ إذ تعرَّى النظام الرأسمالي وقتها مما يَسْتُر به نفسه من دعاوى الصدق، والأمانة، والجودة، والإتقان، وظهر بمظهره الحقيقي من الجشع، والغرور، والكذب، والاحتيالات، وهي الأزمة التي عصفت بكبرى شركات الطاقة آنئذ، وهي شركة "إنرون" .
ويُعِيدُ التاريخ نفسه لنجد صورًا من الخداع والتضليل صَاحَبَ تلك الأزمة من الاحتيال على المستثمرين العالميين، وحجب الحقيقة عنهم مما حدَا بمكتب التحقيقات الفيدرالي أن يفتح تحقيقًا مع أكثر من عشرين مؤسسة مالية للتحقيق في دعاوى الخداع والتضليل.
النتائج :
أ- الشريعة الإسلامية هي النظام الأمثل للبشرية سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا؛ وذلك لأنها كما قال ابن القيم رحمه الله: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" . وأن المستقبل لهذا الدين، والله متم نوره.
ب- إن واجب الوقت يُحَتُّم على علماء الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية إظهار سَوْآت النظم الوضعية في مجالاتها المختلفة، وفضحها، وحسن تقديم البديل الشرعي، والدعاية له، وعدم انتظار كارثة لإظهار ما لدينا نحن المسلمين من حلول شرعية.
ج- متى يَكُفُّ المخدوعون بالنظام الرأسمالي ومؤسساته من مفكرين، وساسة، ورجالات قانون وشريعة في بلادنا عن التماس الأعذار لتلك النظم، وطمسهم معالم شريعتنا الغرَّاء، والتحايل على أحكامها، والسخرية من مبادئها؟! أمَا لهم فيما أحدثه النظام الرأسمالي من خراب عالمي عبرة وعظة؟! أمَا لهم أن يعودوا إلى شريعة الهدى والرحمة؟! قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .